رومولوس وريموس .. قصة نشوء امبراطورية
كان الرجل الوضيع في الماضي إذا ما ارتقى عادة الى منصب ذي ثراء ونفوذ، سعى لإيجاد الدليل على أنه سليل أسرة عريقة .. ففي انجلترا مثلاً حاول مثل هؤلاء الرجال أن يدللوا على أن أسلافهم قدموا الى انجلترا مع “وليام الفاتح”، أما في اسكتلندا فكانوا يسعون لإثبات أنهم سليلو “روبرت ذا بروس”. وما كان هذا الطموح مقصوراً على الأفراد، بل يمكن أن يمتد ليشمل شعوباً بأكملها. ففي العصور الوسطى حاول المثقفون أن يدللوا على أن أصل الإنجليز من أبناء طروادة. وما كان للرومان أن يشذوا عن هذه القاعدة، فعندما جعلوا من أنفسهم سادة للعالم، شرعوا في إثبات أنهم لم يكونوا مجرد سليلي رعاة خشني الطبع، لكنهم سليلو الملوك الأقدمين. وهكذا ابتدع الشعراء والمؤرخون الأساطير ليصفوا أصل الشعب الروماني، وكانت قصة رومولوس وريموس واحدة من هذه الأساطير، ولا شك أنها لم تختلق إلا بعد أربعمائة عام من الزمن المفروض أنها وقعت فيه. ومع ذلك فقد آمن الرومان بهذه القصص لأنها تستثير شعورهم بكبريائهم القومي. ونحن نعرف جميعاً أن آينياس القائد الطروادي، هو الوحيد الذي ظل حياً بعد الاستيلاء على مدينة طروادة، والذي وصل الى ساحل “لاتيوم” بعد العديد من المغامرات، واستقر هناك بعد أن تزوج من لافينيا ابنة الملك لاتينوس، ثم قام أيولس إبن آينياس بتشييد مدينة “ألبا لونجا” وتربع على عرشها، وخلال القرون الأربعة التالية، حكم المدينة ثمانية حكام، وفي القرن الثامن قبل الميلاد تربع على العرش الملك “نيوميتور”. وتآمر أميوليوس الأخ الأصغر لنيوميتور عليه وخلعه عن العرش. وكان لنيوميتور ابنة اسمها “ريا سيلفيا” خشى أميوليوس أن تتزوج وتنجب أولاداً يخلعونه عن العرش، فأرغمها على أن تصبح كاهنة من العذراوات اللواتي يكرسن حياتهن لخدمة الإلهة فيستا واللائي يحرم عليهن الزواج، وإلا فالموت مصيرهن. لكن القصة تمضي لتحكي كيف أن الإله “مارس” قرر الزواج من “ريا سيلفيا” سراً، وأنها أنجبت ذكرين، هما رومولوس وريموس، وعندما وصل أميوليوس النبأ، أصدر أوامره بإلقاء “ريا” في غياهب السجن، كما أمر بإغراق التوأمين في نهر التيبر، إلا أن أحد الخدم أشفق على الوليدين ووضعهما في صندوق وألقى به في نهر التيبر. ولما كان الصندوق من الخشب، فقد ظل طافياً حتى ألقى مرساه على شط التيبر، بالقرب من الموقع الذي أقيمت فيه مدينة روما فيما بعد. وهناك لاقت الطفلين ذئبة، ظلت ترعاهما حقبة من الزمان، وأخيراً تبناهما فوستولوس أحد رعاة الملك، الذي رباهما كابنين له. وكان الولدان يتميزان بالقوة والبراعة، لذلك أصبحا زعيمي كل الشباب في المنطقة، وفي إحدى غاراتهما الجريئة، ألقي القبض على ريموس وجئ به أمام نيوميتور، وأتى رومولوس لإنقاذه، وأدرك الشابان أن العجوز جدهما، فهاجما “ألبا لونجا” سوياً، وقتلا أميوليوس وأعادا نيوميتور الى العرش، وعندئذ قرر الشقيقان إيجاد مدينة بالقرب من الموقع الذي عثرت عليهما عنده الذئبة. واتفقا على سؤال الآلهة لتقرر لهما أيهما يصبح ملكاً، وكانت آية من تفضله الآلهة أن يشاهد في السماء عدداً من الطيور أكبر مما سيشاهده الآخر. وتسلق ريموس “تل أفنتين” ومن قمته شاهد ستة نسور، لكنه ما أن طالب بالعرش، حتى كان رومولوس قد شاهد اثنى عشر نسراً من “تل بالاتين” وظلت المشكلة معلقة، وازدادت حدة التنافس بين الشقيقين مرارة. وكان رومولوس قد قرر أن يصبح الحاكم، فبدأ استعداداته لإنشاء المدينة الجديدة، لكن ريموس أهانه بالوثب فوق السور الذي كان رومولوس قد بدأ لتوه بناءه. وفي غمرة من غيظه قتل رومولوس أخاه وهو يصيح “فليكن الهلاك مصير كل من يتخطى هذا السور”. إنجازات رومولوسكان رومولوس قد أصبح آنذاك الحاكم الأوحد لروما، وكان أول أعماله أن أحاط تل بالاتين بسور يحميه، وحتى يزيد من تعداد قاطني المدينة الصغيرة، وعد رومولوس بإيواء كل من يقصدها، وبأن يظله بحمايته. ولا شك أن ذلك العرض جذب اللصوص والقتلة الذين كانت حياتهم في بلادهم مستحيلة، وهكذا اندفعوا أفواجاً الى روما. ولم تكن الحياة آمنة بين مثل هؤلاء الناس، لذلك فإن حرساً قوامه 300 رجل مسلح كان يرافق رومولوس دائماً. وكان معظم سكان المدينة الجديدة من الرجال، ولكي يحصل على زوجات لهم، هاجم رومولوس شعب السابيين المجاور وسبى نساءه، مما تسبب في اشتعال نار الحرب بين الشعبين، لكن نساء السابيين عملن على نشر السلام بين الجانبين، ووفق على اندماجهما ليكونا شعباً واحداً، واضطر رومولوس أن يوافق على اعتبار “تيتوس تاتيوس” ملك السابين شريكاً له في العرش، لكن تيتوس لاقى حتفه على أية حال بعد ذلك بفترة وجيزة. وهكذا أصبح رمولوس مرة أخرى الملك الأوحد، وظل متربعاً على العرش أربعين عاماً. وفي خلال هذه الفترة قاتل في عدة حروب ظافرة مع المدن المجاورة. وفي نهاية حكمه رُفع رومولوس الى السماء بينما كان يستعرض جيشه. ولقد قدسه الرومان وعبدوه على أنه الإلهه كويرنيوس، وآمنوا بأنه كان يرعى مصالح مدينته. مولد الأسطورة
في مقدور المؤرخين المحدثين أن يدركوا كيف ابتدعت أسطورة ما، إذا ما قارنوا بين الأساطير عند مختلف الشعوب، وفي شتى العصور. فهناك العديد من العناصر والمكونات الإغريقية في قصة رومولوس وريموس، بينما يبدو من الواضح أن رومولوس قد اخترع ليبرر اسم مدينة “روما”. وهذا هو الضرب من القصص الذي تهوى الشعوب اختلاقه عن أسلافها.