التاريخ المظلم للنوستالجيا
ربما تتفاجأ حين تعرف أن الحنين إلى الماضي كان يعد مرضاً عصبياً يصيب خلايا الدماغ قبل أن يتحول إلى حالة جميلة نشعر بها حين نتذكر الماضي.
مرض عصبي سويسري غريب
قصتنا تعود الى أواخر القرن الـ17، إذ لاحظ الطبيب "يوهانس هوفر" تفشي مرض غريب بين الجنود السويسريين الذين يعملون في دول أوروبية أخرى، وكانت أعراضه تشمل الإعياء والأرق وعدم انتظام دقات القلب وعسر الهضم والارتفاع الشديد في درجات الحرارة، وكان المرض شديداً لدرجة تصل أحياناً الى إعفائهم من الخدمة. اعتبر "هوفر" أن السبب ليس بيولوجياً فقط بل هو "مرض دماغي" يحدث بسبب غريب ألا وهو "الاهتزاز المستمر لأرواح الحيوانات عبر ألياف الدماغ التي لا تزال متشبثة بالوطن".
ألم العودة الى الوطن
أطلق "هوفر" على المرض العصبي الجديد اسم "نوس آلجوس"، وباللغة اليونانية تعني كلمة "نوس" العودة للوطن و "آلجوس" الألم، وتم اعتباره وباء سويسرياً فقط، وقد قال بعض الأطباء إن السبب هو أصوات أجراس البقر في جبال الألب لأنها تسبب أذى لطبلة الأذن وتلفاً في الدماغ، حتى إن ترديد الأغاني السويسرية القديمة كان ممنوعاً بين الجنود خوفاً من أن يؤدي ذلك الى فرارهم أو انتحارهم. أطباء آخرون قالوا إن السبب هو الاختلاف في الضغط الجوي الذي عاني منه هؤلاء الجنود أثناء نزولهم من منازلهم في جبال الألب للقتال في سهول أوروبا.
الهجرة تزداد والمرض يتفشى
مع تزايد الهجرة في أوروبا لوحظ المرض على جنسيات أخرى غير السويسرية، واتضح أن أي شخص يبتعد عن وطنه لفترة طويلة معرض للإصابة بهذا المرض. مع بداية القرن الـ 20 اختلفت توصيفات الأطباء له، فلم يعد مرضاً عصبياً بل نفسي، وبدأ التشخيص يأخذ منحى قريباً من الاكتئاب، إذ وصفوه بأنه "ذهان المهاجر" و"اضطراب عقلي قمعي قهري"، وربطوه بالخسارة والحزن والحداد، وربطه بعض علماء النفس وقتها بعدم الخروج من مرحلة الطفولة أو الشوق للعودة إليها.
الحنين للماضي وليس للوطن
في عام 1979 قام عالم الاجتماع "فريد ديفيس" بإجراء تجربة طلب فيها من المشاركين أن يربطوا كلمات مثل الدفء والأزمنة القديمة والطفولة والشوق إما بالماضي أو بالوطن، ووجد أنه في كثير من الأحيان ربط المشاركون هذه الكلمات بالماضي أكثر من الوطن. ومنذ ذلك الوقت تم تصحيح مفهوم "النوستالجيا" للإشارة الى أي حنين للماضي، بينما تم التعبير عن الحنين الى الوطن بمصطلح "Homesickness" وترجمته الحرفية "مرض الوطن".
تجربة شاعرية إيجابية
ظهر مفهوم "النوستالجيا" كثيراً في الروايات والقصص، وعندما تم تحليل عدد كبير من هذه الكتابات وُجد أن التعبير عن حالة الحنين للماضي إنما تأتي في سياق إيجابي وليس سلبياً، وأشهر هذه الأمثلة ما قاله المؤلف الفرنسي "مارسيل بروست" عندما تذوق حلوى من طفولته، إذ وصف الأمر بأنه شلال من المشاعر الدافئة والقوية.
تحول جذري في فهم "النوستالجيا"
عندما انتقل علماء النفس من مرحلة الدراسة النظرية الى المراقبة والتجارب المنهجية أدركوا أن الأعراض السلبية قد تكون مترافقة مع "النوستالجيا" لكنها لا تنتج عنها، ورغم أنها حالة معقدة من المشاعر المختلطة تتضمن أحياناً الحزن والخسارة، والرغبة بالعودة الى أيام لن تعود إلا أنها لا تجعل الناس يشعرون بمزاج سيء. وبالعكس فإن استحضار الناس ذكرياتهم ونجاحاتهم القديمة ومشاركتها مع الآخرين يحافظ على الصحة النفسية، إذ يزداد تقديرهم لذواتهم وإحساسهم بالانتماء الاجتماعي ويشجعهم ذلك على الأعمال الخيرية، حتى أنه تحول الى علاج يحسن المزاج.
الماضي أجمل دائماً
لكل جيل ماضٍ مختلف، فماضي جيل التسعينيات يختلف عن الثمانينيات والسبعينيات وما قبله، ومع ذلك تجتمع جميع الأجيال على أن ماضيها الخاص كان الأجمل، رمضان والأعياد والزيارات الاجتماعية وكل تفاصيل الحياة في الماضي دائماً تكون أجمل بغض النظر متى كان هذا الماضي. يفسر العلماء السبب بأن ذاكرة الإنسان تعمل على تصفية الأمور السيئة والاحتفاظ بالأمور الجميلة، ولذلك يظهر الماضي دائماً بصورة وردية.